ويلام دا ويت: مَن الّذي كَتب كِتاب “بينَ العقل والإيمان”؟ دعوة لقراءة أعمال هيرمان باڤينك في الشّرق الأوسَط
هذا المقال تم نشره بشكل رسمي بالمراجع في صيغة pdf:
ويلام دا ويت، “مَن الّذي كَتب كِتاب ’بينَ العقل والإيمان’؟ دعوة لقراءة أعمال هيرمان باڤينك في الشّرق الأوسَط،” المجلة اللاهوتية المصرية 1 (2014): 34–46.
“لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللهُ ابْنَهُ إلى العَالَمِ لِيَدينَ العالَمَ بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ العالَمُ” (يوحَنّا 3: 17). ينعزل الرّاهِب عَنِ العالم ويدينه، مِنْ خِلال ذهابه إلى الصحراء. أمّا يسوع فقَدْ عَزَل نفسه وذهَبَ إلى موضعٍ خلاءٍ في الصّباح باكرًا (مَرقُس1: 35)، ليُقوِّي نفسه على الأعمال اليوميّة والحياتيّة. لكنّ الرّاهِب يرى أنّ جوهر الفضيلة يكمُن في الممارسات التّقشُّفيّة نفسها، فيُحوّل الوسائل إلى غايات.
—هيرمان باڤينك
مُقدِّمَة
“بينَ العقل والإيمان” ترجمة عربيّة لدراسة مُهمّة للإيمان المسيحيّ، كتبها اللّاهوتيّ الهولنديّ هيرمان باڤينك Herman Bavinck (1854–1921). مازال هيرمان باڤينك غير معروف نسبيًّا وسط النّاطقين بلُغة الضّاد؛ على الرّغم مِن الاهتمام به مؤخّرًا في الدوائر المُصْلَحة والمشيخيّة في شمال أمريكا، مُرورًا بإيطاليا وكوريا الجنوبيّة. وهذا المقال بمثابة دعوة للمسيحيّين في الشّرق الأوسَط لقراءة المزيد عَنه وعمّا كتبه في اللّغة الإنجليزيّة (أو بالهولنديّة لمَن يجيدها) وأيضًا للاهتمام بترجمة أعماله الأُخرى إلى اللّغة العربيّة.
يُعتَبَر كتاب “بينَ العقل والإيمان” عمل هام بالنّسبة للعقيدة المُصلَحة/ والمشيخيّة، إلّا أنّ الأعمال الكاملة لباڤينك تشمل العديد مِنَ الكتابات الأُخرى الّتي تُعدّ أكثر أهميّة للفكر اللّاهوتيّ. وسوف يُقدِّم هذا المقال القصير نبذة مُختصرة عَن حياة باڤينك؛ وبعضًا مِن مُراسلاته الشخصيّة؛ ونبذة عَن أحد أهم أعماله، ألا وهو Gereformeerde dogmatiek [أيْ العقيدة المُصْلَحة]، الّذي يتكوَّن مِن أربعة مُجلّدات. كما سيعرض المقال نظرة باڤينك الشّاملة للعالم والتعليم، وأفكاره بخصوص إتباع يسوع المسيح. يتناول المقال أيضًا مدى أهميّة وملائمة هذه الموضوعات للقُرّاء العرب والمِصريّين على وجه الخُصوص.
حياة باڤينك
وُلِدَ باڤينك في مدينة هوخِڤين Hoogeveen الهولنديّة، في 13 ديسمبر 1854. لا ينتمي باڤينك وعائلته إلى الكنيسة الرّسميّة المُصلَحة في هولنديّة؛ بل إلى طائفة مُصلَحة أصْغَر وأكثر مُحافظة مِنَ النّاحية اللّاهوتيّة. كان لهذه الطّائفة كُلّيّة لاهوتيّة خاصة بها في كَمپِن Kampen. نَشَأت هذه الطائفة نتيجة الانفصال عَن الكنيسة الرّسميّة عام 1834، وكان والده واحدًا من قساوستها. دَرَسَ باڤينك في جامعة لَيدِن Leiden مُنذُ عام 1874 حتّى 1880 وكانت هذه الجامعة في ذلك الوقت هي الحصن المنيع ضدّ اللّاهوت التَّحَرُّريّ. وفي عام 1880 أكمل باڤينك دراسته عَن الأخلاقيّات في فكر اللّاهوتيّ المُصلَح هولدريخ زوينجلي Huldrych Zwingli (1484–1531). ثُمّ أصبح باڤينك مُدرّسًا في كامپِن، بعد أنْ قَضى فترة كراعي مُذُّ عام 1881 حتّى 1882. وتزوّج في عام 1891 مِن يوهَنا أدريانا سخيپِرْس Johanna Adriana Schippers وبعد ثلاث سنوات أنجبا ابنتهما.
أبراهام كَوپِر Abraham Kuyper (1837–1920) –وهو لاهوتيّ هولنديّ شهير– أسّس في عام 1880 الجامعة الحُرّة Vrije Universiteit بأمستردام. وفي عام 1866 كان واحدًا مِن قادة الانشقاق الثّانيّ عَن الكنيسة الهولنديّة المُصلَحة. ثُمّ في عام 1892 اتّحدت مُعظَم الكنائس الّتي انفصلت عامي 1834 و1886، ليكوّنوا الكنائس المُصلَحة في هولندا. يوجد مكانان لتدريب الرُّعاة حاليًّا في هذه الكنيسة الجديدة: كُلّيّة لاهوت كَمپِن وكُلّيّة لاهوت الجامعة الحُرّة. وبذل باڤينك جهودًا مضنية لدمج الكُلّيَّتين، ولكن عندما بائت مُحاولاته بالفَشَل، انتقل عام 1902 إلى أمستردام، وأصبح مُدرّسًا في الجامعة الحُرّة خَلَفًا لكَوپِر، الّذي أصبح رئيس وزراء هولندا عام 1901. وفي عام 1911 أصبح باڤينك نفسه عضوًا في البرلمان الهولنديّ وتُوفّيَ في 29 يوليو 1921.
على الرّغم مِن أنّ تاريخ الكنيسة الهولنديّة لا يعني الكثير بالنّسبة لمَن يقرأ أعمال باڤينك –في مُختلَف بقاع العالم– إلّا أنّه يَسهُل على المسيحيّين الپروتستانت في الشّرق الأوسط أنّ يتوحّدوا به؛ وهذا يرجِع إلى أنّ باڤينك لا يَعتَبِر نفسه مُمثِّلًا للثقافة السائدة في وقته، بل مُمثِّلًا لثقافة فرعيّة أو مُناهِضَة تابعة إلى الأقلّيّة. إذْ قَد تأصّل باڤينك في ثقافة الانفصال (“أنا ابن للانفصال، وأتمنَّى أنْ أظل هكذا”).
المُراسلات
“هل سأظلّ ثابتًا؟ الله وحده الّذي يضمن هذا،” كتب باڤينك هذه العبارة في مُذكَّراته في 23 سبتمبر 1874 يوم وصُله إلى لَيدِن لدراسة اللّاهوت. إنّ الصّراع مِن أجل الثَّبات كمسيحيّ، يُشكّل الثمة الّتي تكمُن وراء العديد مِن أعمال باڤينك، بل ويظهر بوضوح أكثر في عدد مِن رسائله؛ يتزامن هذا مع تحوّل العديد مِن مُعاصريه عَنِ الإيمان المسيحيّ في هذا الوقت.
إنّ مُراسلات باڤينك مَعَ كريستيان سنوك هرخرونياChristiaan Snouck Hurgronje (1857–1936)، تُعتَبَر نُقطة بداية مُناسبة لمَن يُريد قراءة أعمال باڤينك. أصبح باڤينك وكريستيان صديقَين حميمَين أثناء الدّراسة في لَيدِن، وسيُصبِح كريستيان واحدًا مِنَ الرّوّاد الغربيّين المُتخصّصين في الدّراسات الإسلاميّة، بالإضافة إلى أنّ زيارتك لمكّة عام 1885 جعلته ذائع الصّيت في أوروبا. استّمرّت صداقتهما حتّى وفاة باڤينك. وبينما تُزوّدنا هذه المُراسلات بفكرة عَن رأي باڤينك بخصوص الإسلام، إلّا أنّها تُعلّمنا أيضًا أنّ حتّى (أو قُلْ خاصّة) الرّاعي واللّاهوتيّ قَدْ يُعاني صراعًا مع الشّكّ والفتور. فعلى سبيل المِثال، يكتُب باڤينك مُفكّرًا في دراسته بلَيدِن:
إنّ براءة إيمان الطفل، مِنَ الثّقة الكاملة بالحقّ الّذي انغَرَس داخلي –يُمكنك مُلاحظة– أنّ هذا ما فقدته بالذّات، وهو أمر ليس بالهيّن، ليس بالهيّن. . . .
أعلَمُ أنّني لنْ استعيد هذا مرّة أُخرى. . . . في بعض الأحيان، وبينما أُقابل –في الكنيسة– بعض الأشخاص، الّذين مازالوا يحتفظون ببراءة إيمانهم ويسلكون بمقتضاه في غاية السّعادة، فأتمنَّى لو أنّني أستطيع الإيمان مُجدّدًا مثلهم ببهجة وفَرَح. وأشعُر أنّه لو كان لديّ هذا النّوع مِنَ الإيمان وكُنت أعظ بحرارة وحيويّة، مُقتنعًا دائمًا بما كُنت أقول، فحقًا لأصبحت قويًّا وقادرًا، وقتها فقط، لصرت مُفيدًا، أعيش حقيقة ذاتي وأعيش لأجل الآخرين.
ولكنّي أعلم أنّ الأمر قَدِ انتهى، وأمسى مُستحيلًا.
وبعد عدّة سنوات يعترف باڤينك، قائلًا:
أحيانًا أُلاحظ وازعًا في قرارة نفسي، بأنّ الكِتاب المُقدّس قَد لا يكون دقيقًا؛ وأنّ النّقد الحديث قَد يكون على حَقّ. وفي هذا أرى شيئًا مِنَ الحَنَق الباطني الّذي يكنّه القلب الخاطئ تجاه الرّبّ الواحد القُدّوس. إلّا أنّ هذا الحَنَق يُمكن التّغلُّب عليه بالإيمان والصّلاة فقط. . . . خبرة الارتباط والتّواصل مع الآخرين، هي الّتي تربطني بالكِتاب المُقدّس وبالإقرار الإيمانيّ. رغم أنّ لديّ اعتراضات ضِدّ المسيحيّة تدور في خُلدي مثلك تمامًا.
وهذا لا يعني أنّ باڤينك ارتدّ عَن إيمانه أو أنّه كان دائم الصراع. فيذكُر أحد طُلّابه عَنه، قائلًا:
لقَدْ قام بالكثير جِدًا، أكثر مِن مُجرّد التدريس. فكمسيحيّ، كان قادرًا على أنْ يجعل المرء يشعُر بعمق ومجد إعلان الله في المسيح؛ أنْ يُدرك محدوديّة الأشياء الزائلة مُقارنةً بالّتي هي أبديّة؛ أنْ يتطلّع للمعرفة –حتّى وإنْ كانت معرفة جُزئيّة– إلى أنْ يجيء ذاك اليوم الّذي ستُعلَن فيه جميع الأسرار. يحملك باڤينك مَعَه بعيدًا لتجثو على رُكبتيك أمام عَرْش الحَمَل.
يُمكِن لخطابات باڤينك أنْ تُقدِّم للقُرّاء مِرآةً، فيُواجهون فيها صراعاتهم الشخصيّة. كما أنّ خِطاباته تجعل الجميع يشترك معًا في هذه الصراعات. فمثلًا، يُمكِن للطُلّاب أو الرُّعاة أنْ يتناقشوا حول الأسئلة –الّتي عادةً– يصعُب مُشاركتها وطرحها بسهولة.
العقائد
إنْ مُساهمة باڤينك الرّئيسيّة في اللّاهوت المُصلَح تتلخّص في الأربعة المُجلّدات الّتي بعنوان Gereformeerde Dogmatiek [أيْ العقيدة المُصْلَحة]. تَمّ نَشْر هذا العمل لأوّل مَرّة مُنذُ عام 1895 إلى 1901، ثُمّ تمّ تحريره مُنذُ عام 1906 إلى 1911، ونُشِرَ باللّغة الإنجليزيّة تحت عنوان Reformed Dogmatics مُنذُ عام 2003 إلى 2008، وباللُّغة الكوريّة في عام 2011.
في حين كان باڤينك ضليعًا في اللّاهوت المُصلَح الخاص بالقرن السّادس عَشْر والسّابع عَشْر، إلّا أنّهُ كان أيضًا لديه انجذابًا واضحًا بالفكر الآبائيّ وفكر العصر الوسيط: “أُناس مِثل إرينيئوس وأغسطينوس وتوما الأكوينيّ لا يقتصرون فقط على كنيسة روما. فهم آباء ومُعلّمون تدين لهم الكنيسة المسيحية جُلّها.” هذا الأساس “الكاثوليكيّ” (الجامع والمسكونيّ) قَد يجعل مِن دراسة أعمال باڤينك أمرًا مقبولًا حتّى لدى الكنائس الأرثوذكسيّة في الشّرق الأوسط. اضِف إلى هذا، أنّ باڤينك لا يرى الكالڤينيّة تمتلك الحقّ المُطلَق (“لتتطوّر المسيحيّة الأمريكية طبقًا لقانونها الخاص. . . . بكُلّ تأكيد، الكالڤينيّة ليست هي الحقّ الوحيدة!”) وتكلّم عَن چون وسْلي بكُلّ تقدير، في معرض حديثه عَن إسرائيل والمُلك الألفيّ في الفصل الخاص بالأُخرَويّات (الإسخاتولوچي)، تابعًا التّقيد المُصلَح/المشيخيّ. كما قَد يكون باڤينك محط اهتمام المعنيّين بدراسة تأثير الفكر التّدبيريّ على الپروتستانت في العالم العربيّ.
مِنْ أكثر العقائد الّتي تسترعي الانتباه عِندَ باڤينك هي عقيدته بخصوص الكتاب المُقدّس. وبالرّغم مِن تصريحه قبل وفاته بأنّ “إشكاليّة الكتاب المُقدّس” لمْ تُحلّ بعد؛ إلّا أنّ إسهاماتهُ تُعدّ مُهمّة للتخلُّص مِنْ فكرة الوحي الميكانيكيّ (“الإملائيّ”) واستبدالها بفكرة الوحي العضويّ (الحيويّ)، الّتي تضع في الاعتبار الظّروف الخاصة والشّخصيات المُختلفة لكُتّاب الأسفار الكتابيّة؛ بدون تجريد الكتاب المُقدّس مِنْ سُلطانه ككلمة الله. في رأيي، يُمكِن لباڤينك مُساعدة المسيحيّين في صياغة مفهومهم اللّاهوتيّ المُتمايز عَن الوحي، في سياق تُسيطر فيه فكرة الوحي المُنزَّل.
وفي نفس الوقت الّذي تُعتَبَر فيه فكرة “الاتحاد السّرّيّ بالمسيح” على أنّها محور عقائد باڤينك –رغم أهميّتها في حياته الرُّحيّة– إلّا أنّ ثمّة عبارة تتكرّر أكثر وتُعتَبَر هي محور عقائده، ألا وهي: “إنّ النّعمة تستردّ (تُجدّد) الطبيعة.” بُناءًا على فكر باڤينك، فإنّ النّعمة لا تعزلنا عَن الحياة (الأرضيّة) عمومًا، بل إنّها تستَردّها وتفتديها مِن نتائج الخطيّة وتقودها في النّهاية الى الاكتمال.
نظرته الشّاملة والتعليم
ورغم إنّ باڤينك يشتهر أكثر بعمله “العقائد المُصلَحة” فهو لا يرى العقائد على أنّها هدف وجود المسيحيّة وغايتها. ففي رأيه إنّ المسيحيين (المُصلَحين) عليهم الانخراط في كُلّ مناحي الثقافة. فيكتُب في مقالٍ سابقٍ:
الإصلاح هو نظرة شاملة للعالم والحياة. فالإصلاح يضع الإنسانيّة في علاقة خاصة مع الله، وبالتّالي يضع الإنسان في علاقة خاصة تجاه كُلّ شيء؛ تجاه العائلة والدولة والمجتمع والفَنّ والعِلْم والخ. بالإضافة إلى المبادئ العقائديّة، فثمّة مبادئ أخلاقيّة وسياسيّة واجتماعيّة وعِلميّة وجماليّة إبداعيّة. حتّى إنّ المبادئ المُصلَحة تُضفي بصماتها الخاصة على كُلّ شيء موجد.
هذه الكلمات تُساهم فيما سيكتبه باڤينك لاحقًا، خاصة أثناء العقدين الأخيرين مِن حياته. يُمكِن اعتبار كتابه Christelijke wereldbeschouwing [نظْرة مسيحيّة شاملة] الّذي نَشره عام 1904، وكذلك العديد مِن أعماله الأُخرى على أنّها توضيحات مُفصَّلة لوجهة نظره المسيحيّة الشّاملة لمناحي خاصة في الحياة؛ مِثل العائلة، الأخلاق، العِلْم، العلاقات الاجتماعيّة وعِلْم الجمال، ومجموعة مِن مقالاته في هذه الصدد تمّ نشرها بالإنجليزيّة.
أمّا كتاباته عَنِ التّعليم المسيحيّ فتستحِق اهتمامًا خاصًا. إذْ يُعتَبَر كتابه Paedagogische beginselen [مبادئ التعليم] المرجِع للفلسفة المسيحيّة في التّعليم. إذ يُماثِل هذا العمل كِتاب “المبادئ” لكالڤِن في اللّاهوت. وتفاعلًا مع النّظريات التّعليميّة الرّائدة في عصره، فقَد طوّر نظرة مسيحيّة مُتميّزة بخصوص هدف التّعليم ونُقطة انطلاقه واسلوبه. وكان ثمّة نصّ كتابيّ مفتاحيّ بالنّسبة لباڤينك، ألا وهو: “لِكَيْ يَكونَ إنْسانُ اللهِ كامِلًا، مُتأهِّبًا لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ” 2 تيموثاوس3: 17.
سواء كُنّا مُتّفقين أو مُختلفين مَعَ آراء باڤينك، فإنّ كِتاباته قَد تُلهِم المسيحيّين بحقيقة أنّه مِنَ المُمكِن الوصول لفكرة جوهريّة عَنِ التّعليم، مِن منظور مسيحيّ. كما أنّ كِتابات باڤينك يُمكن أنْ تُشجِّع المسيحيّين للتفكير ولتكوين نموذجهم التّعليميّ الخاص؛ وسط ثقافة تسعى فيها بعض الجماعات لوضع بصمة إسلاميّة فارقة على التّعليم المدرسيّ.
إتباع يسوع المسيح
إن موضوع إتباع يسوع المسيح له أهميّة كُبرى في حياة باڤينك. فقَد كَتَب في يوميّاته مرارًا وتكرارًا، أثناء دراسته في لَيدِن، معبِّرًا عَن رجائه في أنْ يكون “مستحقًا لإتباع يسوع.” وفي سِلسِلة مِن مقالات له بينَ عامي 1885–1886، كتب مرّتين عَن “الاقتداء بالمسيح” (إتباع المسيح) وكذلك في بحث قصير عام 1918. وفي عام 1886 انتَقَد النموذج الرّهبانيّ في الاقتداء: “يسوع لمْ يأتِ لِيَدينَ العالَمَ بَلْ ليُخَلّص العالَمُ (يُوحنّا 3: 17). ينعَزِل الرّاهب عَنِ العالم ويدينه، مِنْ خِلال ذهابه إلى الصحراء. أمّا يسوع فقَدْ عَزَل نفسه وذهَبَ إلى موضعٍ خلاءٍ في الصّباح باكرًا (مَرقُس1: 35)، ليُقوِّي نفسه على الأعمال اليوميّة والحياتيّة.”
ومع أنّ تعليق باڤينك على الرّاهِب في الصحراء قَدْ يُدَلِّل على أنّه يَقصِد القدّيس أنطونيوس والكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة؛ لكن على الأرجح أنّه يقصد بكلمة “الرّاهِب” الإشارة إلى الكثيرين مِنْ طائفته المُصلَحة الذين –في رأيه– يفكّرون بشكل انعزاليّ وإقصائيّ شديد. ويرى باڤينك أنّ الرّغبة في الانعزال عَنِ العالم تتمثَّل في كُلّيّة لاهوت كَمپِن: حيثُ أنّها لَمْ تكُن جامعة، ولكنّها كانت مُجرّد معهد تعليميّ لاهوتيّ مُنفَصِل؛ ولَمْ تَكُن كُلّيّة اللّاهوت هذه واقعة في وسَط مدينة بالفعِل، بل في مُجرّد بلدة كَمپِن الصغيرة. ولكن، بالنسبة له، فكان النموذج الأمْثَل هو جامعة مسيحيّة، وقَدْ رأى هذا النّموذج يتحقّق جُزئيًّا في “الجامعة الحُرّة.” في كتاباته لصديقه سنوك هرخرونيا نَبَّر على أنّ يَعمَل على كاثوليكيّة (أيْ شموليّة) الإيمان المسيحيّ–بمعنى ارتباط الإيمان المسيحيّ بكُلّ مناحي الحياة–كان المُراد بهذه الكاثوليكيّة أنْ تكون كـ”دواء ضدّ الميول الانفصاليّة والطّائفيّة (المذهبيّة) الّتي تظهر أحيانًا في كنائسنا.” ويُضيف قائلًا: “يوجَد في وسطنا الكثير مِنْ الرّجعيّة (ضيق الأُفق) والخِدَع (الرّياء)، بل وأدهى مِن ذلك، أنْ تُعتَبَر هذه الأشياء تقوى.”
قام باڤينك في عام 1900 بعرض كِتاب للكاتِب الشهير تشارلز شيلدون Charles Sheldon يحمل اسم “في خُطواته: ماذا كان سيفعل يسوع؟” ولاحَظ باڤينك أنّ السّؤال المطروح في عنوان الفرعيّ للكتاب، ليس في محلّه؛ فيقول:
لمْ يتولّى يسوع منصبًا في المُجتَمَع، ولمْ يتبوّأ وظيفة في الكنيسة أو المجمع. لمْ يكُن يسوع زوجًا ولا أبًا لعائلة، ولا مُزارِعًا ولا تاجرًا، ولا عالِمًا ولا فنانًا. . . . بل كان بالتّأكيد أكثر مِن كُلّ هذا بكثير، إذ كان فادي الخُطاة ومُخلِّص العالم.
ولهذا السّبب فالسّؤال “ماذا سيفعل يسوع لو كان مكاني؟” ليس سؤالًا في محلّه . . .
. . . فإنْ لمْ يستطع المرء تخيُّل يسوع زوجًا أو أبًا لعائلة–وهو أمر يصعُب تخيّله حقًّا–فقَد يُقرّر المرء أنْ يتخلّى عَن الزّواج أو يهجُر عائلته، ولا يفعل شيئًا سوى التّجوّال في بلدته ليعظ ويعمل المُعجزات.
. . . لكن المعنى الحقيقيّ لإتّباع يسوع ليس في تقليده ولا نسخه؛ [ولكن يعني] أنّنا كأولاد لله–بكُلّ حُرّيّة واستقلاليّة، في سياق ظروفنا وعلاقاتنا الشّخصيّة، حتّى وإنْ كَلَّفنا الأمر أعظم إنكار للذات وحَمْل أثْقَل صَليب–نعمل إرادة الله الّتي عملها المسيح . . . بالتّمام والكمال. لأنّ كُلّ مَن يعمل إرادة الله هو ليسوع أخًا وأُختًا وأُمًّا.
وخلال العِقد الأوّل مِنَ القّرن العِشرين، ناقش باڤينك بكثرة موضوع أنّ الإيمان المسيحيّ هو صِرَع على المُستوى العَقلانيّ والأكاديميّ؛ ونتج عن هذا الصِّراع مجموعة مُحاضرات له، في عام 1908، بعنوان “فلسَفة الإعلان.” وفي نَشرَة بخصوص إتّباع المسيح–بعد هذا بعشر سنوات، وإبّان السّنة الرّابعة للحرب العالميّة الأولى، إذ كان عضوًا في البرلمان الهولنديّ لمُدّة سبع سنوات–حدّد باڤينك الأزمة الأوّليّة للمسيحيّة في الأخلاقيّات الحياتيّة اليوميّة، أكثر مِن كونها أزمة سياق أكاديميّ:
تجتمع كُلّ هذه التساؤلات معًا في السؤال الخاص باتباع المسيح والحياة في العالم الحاضر. فهل لهذه التّبعيّة مكان في الحياة الثقافيّة المُعاصرة؟ هل مازال بإمكان الناس أنْ يأخُذوا هذا الموضوع مأخذ الجدّ في الدولة، والصّناعة والأعمال والأسواق والبورصة والبنوك والمكاتِب والمصانِع، وكذلك في العِلْم والفنّ وفي الجبهة الأماميّة في الحرب؟
وبينما كان باڤينك مُنتقدًا لروح الثورة الفرنسيّة، إلّا أنّه مِنَ الصعب توقُّع موقفه تجاه الثّورة المِصريّة 2011. ومَعَ ذلِكَ، فمِنَ الواضح أنّه كان ليوصي المسيحيّين بألّا يعتزلوا العالم في أديرة الأنبا بولا والقدّيس أنطونيوس، إلّا لمجرد فترة قصيرة للتعافي. ولا يسحبوا أنفسهم داخل أسوار كُلّيات اللّاهوت أو الكنيسة الپروتستانتيّة؛ بل أنْ يواجهوا السؤال بقدر صعوبته: ما هو معنى إتباع يسوع المسيح في ميدان التّحرير، في ظِلّ نظام مازال هشًا وعُرضة للفساد؟ أو في مُناخ عام يُسيطِر عليه ديانة أُخرى–رُبما الآن أكثر مِنْ ذي قبل؟ PDF
This article is translated from English into Arabic by Venus Boulos
انا قمتبترجمة هذا المقال- فنيس نقولا